الإعلام- من نقل الخبر إلى صناعة الأخبار الزائفة

لم يكن التحول التدريجي من النظام القبلي إلى أروقة الدولة الحديثة، والانتقال الملحوظ من الحكم الفردي السلطوي إلى سيادة المؤسسات الراسخة، أمرًا متاحًا لولا الظهور الميمون للصحافة والإعلام، وهو إنجاز تحقق بفضل الاختراع الجليل للمطبعة. فقد كانت ثورة الطباعة، وما ترتب عليها من نشر واسع النطاق للمعلومات، والأخبار، والأفكار الخلاقة، هي في صميمها الثورة الحقيقية التي وضعت الأسس المتينة للدولة الحديثة. فالحداثة والتنوير ليسا سوى مرجعيات تاريخية عميقة لهذا التطور الحضاري الذي شهده الإنسان.
إلا أن الإعلام، في خضم الثورة التكنولوجية والرقمية الهائلة، لم يعد مجرد ناقل للأخبار العابرة، أو وصف دقيق للأحداث الجارية كما تقع في الواقع الملموس، بل تحول إلى صناعة متكاملة تخضع لسيطرة جهات نافذة، تستخدم وسائل وتقنيات متطورة لتحقيق أهداف وغايات محددة، غالبًا ما تكون منفصلة بشكل متزايد عن الواقع والحقيقة. لقد أصبح الواقع يُعاد بناؤه وتشكيله وفقًا لما تمليه دوائر السلطة وتوجهاتها، سواء كانت هذه السلطة ذات طبيعة سياسية، أو اقتصادية، أو ثقافية، أو اجتماعية، وسواء كانت نخبوية أو شعبية جماهيرية، وسواء كانت داخلية أو خارجية، وطنية أو دولية، حيث يمر كل شيء عبر مسارات خفية تكشف عن القليل وتخفي الكثير. فالشفافية التي كانت جوهر أخلاقيات مهنة الصحافة والإعلام في الماضي، أصبحت في زمن الحداثة السائلة، مجرد وهم زائف، وانعكاسًا مضلل للحقائق.
فقد كان رجال الإعلام والصحافة في الماضي مجرد كتبة متواضعين وباعة بريد متجولين، ينتقلون سيرًا على الأقدام أو على ظهور الخيل، حاملين بين أيديهم رسائل الأخبار والمعلومات. ثم ظهر الحمام الزاجل، ليحمل رسائل الملوك والأباطرة، إلى أن بزغ فجر اليونان القديمة، التي ابتكرت وسيلة أخرى للتواصل السياسي، وهي التعبير المباشر بين السياسيين والجمهور، في ساحة "الأغورا"، حيث كان الهدف هو التعبير الحر، والتداول الفعال، والإقناع المنطقي، والاقتناع المتبادل.
لقد كان الخطاب السياسي في تلك الحقبة مفعمًا بالحيوية والصدق والعفوية، وسمحت الشفهية بأنماط معينة من المصداقية، وحصة وافرة من العاطفة والأخلاق. كما سمحت أيضًا بالحضور السياسي القوي من خلال فن الخطابة والبلاغة، حيث كان للإلقاء المتقن، واللهجة المؤثرة، والإيقاع الجذاب، والعروض الباهرة، قوتها وأهميتها.
وكان لأسلوب المواجهة السياسية المباشرة تأثير كبير على ما يجب قوله، وما لا يجب قوله، حسب السياق والمناسبة، وبالتأكيد، أيضًا على كيفية القول، وعلى المكونات الضرورية لنقل الخطاب بأفضل صورة ممكنة.
وقد استمر هذا الوضع قائمًا إلى حد ما، بدءًا من الثورة الصينية وحتى الثورة الكوبرنيكية التاريخية، وتحديدًا اختراع الطباعة على يد غوتنبرغ، قبل ستة قرون، حيث غيرت الصحافة هذا الوضع المتمثل في الخطاب المباشر وجهًا لوجه، إلى خطاب تم نقله وتعديله بعناية، بعد أن لم يعد السياسي على اتصال مباشر مع جمهوره المستهدف. وتم تعديل الخطاب، بحكم الأمر الواقع، وتبديله، وحتى تشويهه في بعض الأحيان، إذ كان السياسي في الماضي يلقي خطابه بحضوره الفعلي، ويختار المعلومات التي يريد نقلها، ويتجنب ما من شأنه أن يعرض سلطته للخطر.
إلا أن الصحافة اليوم قد غيرت هذا الواقع، حيث نصبت نفسها على أنها "بائع" للمعلومات العامة، لخدمة عامة الناس، وأصبح الحضور غيابًا، والغياب حضورًا. لقد تم نفي الجسد إلى خارج مدارات العاطفة والأخلاق، وتم اختزال الحضور في الصورة النمطية.
فإذا كان صانع القرار السياسي في الماضي هو وحده صاحب سلطة الكشف عن المعلومات أو إخفائها، فإن وسائل الإعلام دخلت في منافسة شرسة وحاولت قدر الإمكان تقديم هذه المعلومات ذات الطابع السياسي، كجزء من خدمة المواطن، وتحقيقًا لشروط الديمقراطية. فلم يعد للسياسيين نفس التعريف التقليدي لكلمة "إعلام"، مثلما لم يعد للصحافة والإعلام نفس الهدف والمهمة. فبات الفضاء العام يعيش قصفًا جويًا وأثيريًا للأخبار "الكاذبة" القادرة على تعزيز موقف بعض السياسيين والإعلاميين ضد بعضهم الآخر، على حد سواء، ما دام الفضاء العام مجالًا للخطاب ونقد الخطاب، وللسلطة ونقيضها.
كان السياسي بحاجة إلى أن يتم تقديمه من خلال وسائل الإعلام لجمهوره: مناصريه ومعارضيه، بشكل يثمن حضوره ويقوي من حظوظه في السلطة، عبر مصداقية الصحافة المكتوبة: الجريدة والمنشورات والدوريات، التي ارتكزت كلاسيكيًا على أخلاقيات المهنة، والتي لم تكن لتعبر بوفاء عن صورته وحقيقته كما يشتهي، لكن مع اختراع الراديو والتلفزيون، سيجد الطريقة الصحيحة لاستعادة صورته، بصوته وصورته المباشرة أو المؤجلة، معبرًا عما يخالجه وعن مقاصده بالشكل الذي يريد، بيد أن صناعة الإعلام وغرف التحرير وضغوطات المستشهرين والمستثمرين قد جعلت السياسي، كما كل الفاعلين، بما في ذلك الأنظمة والدول، يخضع لخط التحرير، الذي ليس سوى سياسة المصلحة.
إن وجوده كصوت أو كصورة أمام الكاميرات وفي مواقع التصوير بكامل طاقته منحه المزيد من القوة والثبات. لكن عوامل التوقيت والمكان المخصص له في الأستوديو، وتقنيات التحرير المتطورة، وخطة التصوير الدقيقة، وموقع الكاميرا، والمقاطعات المتكررة للصحفي في الموقع قلصت من هذا الحضور الكلي، وقللت من طموحاته السياسية. فماذا يبقى إذن من خطابه، إن لم يكن ما يسمح له الوسيط ببثه، كما أشار بيير بورديو عن حق؟.
ولذلك أصبح الإعلام مع التطور التقني بنية ثابتة من بنيات الخطاب الإعلامي والسياسي للفاعل السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي. بيد أن الأمر مختلف تمام الاختلاف حين نتكلم عن الإعلام الجديد، أو الإعلام الرقمي. وبالرغم من أن التلفزيون والراديو، وحتى الصحافة المكتوبة، في ظل العصر الرقمي، قد خسرت المزيد والمزيد من الأرض والسلطة، فإن الخطاب السياسي ما فتئ يسعى بشدة إلى الاستفادة من هذه التقنيات الجديدة، مع العلم كما يقول المارشال ماك لوهان إن "الوسيلة هي الرسالة".
وكما يعتقد جاك أتالي، فإن "أداة الاتصال هي قبل كل شيء مصدر للسلطة"، لذا يحاول السياسي التكيف مع وسائل الإعلام الجديدة ومزاياها ونقاط قوتها. بيد أن هذه السلطة لم تعد المجال الخاص للسياسي، يفعل ما يريد، ومثلما يريد، وحيثما يريد، بل أصبح الفضاء العام المرقمن- وقد انتقلت الجماهير من الواقعي إلى الافتراضي- منافسًا وخصمًا للسياسي ينازعه سلطته ويوجه إستراتيجياته بشكل باتت السياسة فن تدبير الجماهير، وتوظيف الخوارزميات، وكل جاهل بالعالم الرقمي بات ضحية لشبكات التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد، وعلى رأسهم المثقف الذي لم يعد قادرًا على مسايرة تطورات خطاب هذا الإعلام، بعدما تراجع صوته وصورته وتوالى حضوره إلى خارج مدارات الرقمنة والتفاعلية الرقمية، مقتصرًا على حضوره الورقي في زمن باتت القراءة في تراجع مستمر، وفي زمن برز فيه فاعلون جدد ومؤثرون، جعلتهم شبكات التواصل الاجتماعي نجوم المرحلة، بعدما تحولت الجماهير إلى وقود أشعلت نار النجومية والشهرة وتسويق المبتذل والعوالم السفلية لجسد شبقي وغرائزي وتثمين الفضيحة في ظل نظام التفاهة بتعبير آلان دونو، إلى حد بتنا نعيش فيه زمن المجتمعات الفضائحية.
إن الخبر الذي ارتبط في الصحافة القديمة والكلاسيكية بالأحداث والوقائع، كما كانت تجري حقيقة في المكان والزمان، أصبح اليوم صناعة وفذلكة وتوضيبًا، فمن خلال تركيب الصور وتوضيب الفيديوهات وفبركتها أصبح الخبر حقيقة مبنية ومصطنعة، وهو ما اصطلح عليه بالأخبار الكاذبة، أو الزائفة، أو "الفايك نيوز". ومن هنا بات الإعلام الجديد صناعة خطيرة بمثابة سيف ذي حدين، وجب أخذ خطورته بعين الاعتبار في مجال السلطة والسياسة والفكر.
أكيد أن الإعلام الجديد قد أسهم في دمقرطة العمل السياسي والأداء الاجتماعي لفاعليات المجتمع المدني، كما أسهم في تثمين النقد والمتابعة وفتح مجال الحوار والسجال على كافة المستويات، مما زاد من منسوب الثقافة السياسية للمواطنين، بيد أن شبكات التواصل الاجتماعي، وقد تحولت إلى منفذ ومصدر للمعلومات والأخبار، لم تعد مجرد فضاءات شخصية، بقدر ما باتت إحدى البنيات المتحكمة في صناعة الأخبار والإعلام، بما في ذلك الأخبار الزائفة والتعبئة الجماهيرية المضللة، والتي تنال من الأفراد والجماعات، مثلما باتت تنال من هوية الأمم والشعوب والدول.
إن شبكات التواصل الاجتماعي وما تقتضيه من مشاركة جماهيرية مفتوحة على كل الاحتمالات التأويلية والدلالية، باتت اليوم تتبع توجهات وتوجيهات الخوارزميات الموغلة في التجييش والتعبئة الغوغائية، ما دام كل متبحر في هذه العوالم الرقمية يملك صوتًا وصورة وسلطة الخطاب، حيث منحت شبكات التواصل الاجتماعي للمجانين والحمقى والأغبياء صوتًا وسلطة بتعبير إمبرتو إيكو، وهو ما يحتم علينا اليوم بناء مصفاة أخلاقية وقيمية، معنوية وقانونية ومؤسساتية، تمنع كل انحراف للإعلام الجديد من الغرق في بحر الأخبار الزائفة والدعاية المغرضة التي تمس الحياة الخاصة للأفراد والجماعات، وتنال من سمعة الفاعلين في المجال العام، وفق ما بات يعرف بتلويث السمعة الرقمية، التي أصبح لها جنود ومرتزقة، اصطلح عليهم بـ "الذباب الإلكتروني"، بما يجعلنا أمام حرب مفتوحة.
يقتضي ما سبق أن نعيد الاعتبار لأخلاقيات مهنة الصحافة والإعلام، من جهة، ووجوب إنفاذ القانون فيما يخص الأخبار الزائفة والدعاية المغرضة وتلويث السمعة الشخصية والسياسية والاجتماعية للفاعلين في المجال العام. ذلك أن الانتصار للتكنولوجيات الحديثة في مجال الصحافة والإعلام، وفي مجال الثقافة والفكر، لن يتم إلا عبر تفكيك نظام التفاهة، الذي يبدو أنه أصبح يقود العالم نحو الهاوية، خاصة إذا تكلمنا عن مجتمعاتنا السائرة نحو التخلف المستديم.